مولع بزياد
ألهمتني أسطوانة "هدوء نسبي" لزياد الرحباني أيَّما إلهام، حتى وصلتني نسخة من "أنا مش كافر" لتكون بمثابة نافذة فسيحة أخرى أطلُّ من خلالها على زياد وقوته التعبيرية الفريدة الهائلة في صوغ وقائع الحرب الأهلية اللبنانية، في سياقٍ فنيٍّ متماسكٍ نقديًّا وفكريًّا ونغميًّا لم يتنازل عن شرطه الإبداعي: الموسيقى ولا شيء غيرها.
هنا، ودائمًا في سياق أعماله، تناولتُ تلك الموجات من التحديث اللحني، بل التجريب في أحيان كثيرة لا سيما في أشكال العرض الموسيقي الحي (الحفلات) وما يُصاحبها من روح الابتكار والارتجال (هي روح موسيقى الجاز إن شئتَ)، وهو ما سنعرضه بكل شؤونه وشجونه في هذا الكتاب.
لا يمكن بحث تجربة زياد الرحباني دون التوقف بعمق عند تلك النقلة الجوهرية للغناء الفيروزي التي أحدثها بجرأة يُحسد عليها وبدأت فعليًّا مع أسطوانة "وحدن" 1978، وواصلها بقوة لاحقًا مع "معرفتي فيك" 1987، وصولًا إلى أسطوانة "إيه في أمل" 2010، مثلما هي جرأة حقيقية أظهرتها صاحبة "نِحنا والقمر جيران" حين غادرت منصتها الأثيرة التي بنتها اعتمادًا على ألحان ونصوص الأخوين عاصي ومنصور الرحباني، لتمضي نحو آفاق تعبيرية مختلفة كليًّا مع زياد الابن، مع ما تتطلبه من مستويات أداء لم تعهدها من قبل.
كان لرحيل زياد الرحباني الموسيقي والمفكر والحالم والناقد الغاضب، وَقْعٌ شديد القسوة، إذ يتزامن مع هزائم كبرى لحقت بالإنسان والبلدان في منطقتنا وبالفكرة الجوهرية التي سطَّر وفقها صاحب ألحان "كيفك اِنت" سيرته فنانًا طليعيًّا منح الموسيقى رؤية سوسيولوجية قلَّ نظيرها، بل كانت وستظل سابقة لعصرها.